الضمير العالمي في إجازة طويلة والنزعة الإنسانية في المجتمع الدولي مرفوعة من الخدمة. هذه هي الدلالة الأكثر إثارة للقلق على مستقبل العالم الذي يقف متفرجاً على مأساة إنسانية كبرى في القرن الحادي والعشرين. لم يكن متصوراً أن تستمر حتى اليوم، ولأجل غير معلوم، مأساة الشعب السوري التي بدأت معالمها في الظهور بعد شهور قليلة على اندلاع الانتفاضة التي دخلت عامها الرابع قبل أيام. ورغم أن العالم شهد مآسي إنسانية أشد هولا في القرن العشرين، وخاصة في الحربين العالميتين اللتين راح ضحيتهما عشرات الملايين، كان متوقعاً أن يختلف الوضع في القرن الجاري لسببين: أولهما تراكم الدروس التي استخلصها البشر من ويلات الحروب العالمية والإقليمية والداخلية (الأهلية) التي استعرت في القرن الماضي، الأمر الذي أتاح تطوير آليات وقائية وأخرى حمائية سواء لتجنب نشوب مثل هذه الحروب أو لحماية المدنيين خلالها. أما السبب الثاني فهو ميلاد فرع جديد في القانون الدولي يعني بحقوق الإنسان ويفتح الباب للمرة الأولى أمام التدخل لحماية المدنيين عندما تتعرض حياتهم وسلامتهم لخطر شديد، متجاوزاً مفهوم السيادة الوطنية في حدود معينة ووفق ضوابط محددة تحافظ على هذه السيادة باعتبارها الأساس الذي تقوم عليه العلاقات الدولية منذ أكثر من قرنين. وقبل أن يودع العالم القرن العشرين، كان القانون الدولي الإنساني قد اكتملت معالمه تقريباً على نحو حمل بُشرى مفادها أن المعاناة الرهيبة التي تعرض لها ملايين البشر في ذلك القرن وما قبله لن تتكرر في القرن الجديد. ولا يخفى أن إرساء مفهوم التدخل الإنساني لم يكن سهلا في ظل مخاوف كثير من دول العالم من إساءة استخدام هذا التدخل لتحقيق أهداف سياسية وليست إنسانية أو لخدمة مصالح قوى كبرى قد تستغله بعيداً عما شُرع لأجله. غير أن الآمال العريضة في وضع حد لعجز العالم عن المساعدة في إنقاذ ضحايا المعاناة الإنسانية كانت أكبر من تلك المخاوف. وهذا هو ما يجعل دلالة الأرقام المذهلة المتعلقة بالمعاناة الإنسانية للشعب السوري أكثر خطراً مقارنة بكل ما شهده القرن الماضي الذي لم يتوقف نزيف البشرية فيه عقداً واحداً. لذلك ليس من المبالغة اعتبارها دلالة مرعبة حقاً. ورغم أن الأرقام الصمّاء لا تكفي للتعبير عن آلام السوريين، فهي تصيب من يتأملها بالذهول لهول ما تدل عليه من معاناة كان مأمولا أن تنحسر في القرن الحادي والعشرين. ولأنه يتعذر تدقيق أعداد ضحايا الحرب السورية بمختلف فئاتهم في وضع مأساوي يستحيل في ظله إجراء مسوح إحصائية، تظل تقديرات الحد الأدنى كافية لأن تُذهل كل من يتأملها مجتمعة وتفرض عليه التساؤل عن مصير شعب عربي تعرض ومازال لما هو أبشع من كل ما يُروى عن «المحرقة النازية» بما في ذلك الخرافات والأساطير التي نُسجت حولها. فعندما يقضي 150 ألف إنسان نحبهم في حرب شنها نظام حكم متشبث بسلطة أفسدها وأفسدته، فهذا رقم مفزع في القرن الحادي والعشرين، رغم أنه يمثل الحد الأدنى الذي يعرف كل دارس لظروف الحروب من هذا النوع أن تقديرات الحد الأقصى لا تبتعد كثيراً عن الواقع. وهي تتجاوز 200 ألف سوري فقدوا حياتهم. وإذا كان تقدير أعداد المصابين والمعتقلين والمفقودين أكثر صعوبة، فقد صار الأمر أسهل بالنسبة إلى من تركوا ديارهم ونزحوا إلى مناطق أخرى داخل سوريا أو لجأوا إلى الخارج. فالتقديرات التي تعلنها المنظمات الدولية تتيح بناء قاعدة بيانات عن النازحين واللاجئين الذين وصل عددهم إلى ما يقرب من عشرة ملايين من البشر، أي ما يقرب من نصف إجمالي عدد السكان المقدرين بنحو 22 مليون نسمة. وهذا رقم جد مفزع في ذاته، فما بالنا بما ينطوي عليه من معاناة تفوق قدرة البشر على تحملها وتثير التساؤل عن كيفية بقاء من يكابدونها على قيد الحياة حتى اليوم. ورغم تفاوت أوضاع اللاجئين الذين يتجاوز عددهم المليونين، والنازحين داخلياً الذين يصل متوسط التقديرات المتعلقة بهم إلى سبعة ملايين، يظل البؤس جامعاً بينهم بدرجات مختلفة. ولا تقل معاناة اللاجئين في الخارج عن النازحين في الداخل إلا على صعيد أن من استطاعوا عبور الحدود صاروا بمنأى عن هجمات قوات نظام الأسد وقصف طائراته وبراميله المتفجرة. لكن معاناتهم، كغيرهم، لا تكفي كلمات لوصفها سواء من حُشروا في مخيمات أو من حصلوا على إقامات في بعض الدول العربية والأوروبية. فأقل القليل منهم هم الذين وجدوا فرصة لبدء حياة جديدة لا تقل قلقاً وألماً وحزناً عن غيرهم، لكنها قد تكون أقل معاناة من الناحية المعيشية. أما النازحون إلى الداخل فهم مثال للبؤس في أجلى صوره، بل قل إنهم تجسيد للألم الإنساني حين يبلغ أقصى ذروة له. فكثير من هؤلاء الذين يربو عددهم على السبعة ملايين لا تصلهم مساعدات منظمات الإغاثة الدولية، وبعضهم لا يحصل على هذه المساعدات بشكل منتظم، نتيجة الصعوبات التي تواجه دخول طواقم هذه المنظمات أو تحركها في مناطق القصف أو القتال المميت. ولعل أكثر ما يثير الفزع في هذه الأوضاع البائسة هو معاناة الأطفال المعذَّبين الذين يقتلهم الرعب في كل لحظة أو تهاجمهم الأمراض في غياب الأمصال اللازمة أو عدم كفايتها، ولعدم وجود امكانيات للعلاج. وتشير آخر تقارير صادرة عن منظمة أطباء بلا حدود إلى انتشار الإصابة بشلل الأطفال، وشيوع الأمراض العصبية والنفسية الناجمة عن ويلات الحرب وشدة الخوف. أما حالات موت الأطفال، والكبار أيضاً، من جراَّء الجوع والبرد فهي أكثر من مفزعة. وهذا فضلا عن هول المعاناة الناجمة عن الحصار الذي سجل أرقاماً قياسية غير مسبوقة في بعض الحالات وخاصة حالة حمص القديمة التي يعيش فيها أكثر من ربع مليون سوري تحت حصار تجاوز شهره الثاني والعشرين. وعندما يتعود المجتمع الدولي على التعايش مع مأساة بهذا الحجم، ويعطي ضميره إجازة طويلة، فهو يخاطر بتبديد الآمال التي رافقت بداية القرن الجاري بأن يكون بداية عصر جديد أكثر إنسانية. فإذا كان الاستخفاف بمأساة الحرب العالمية الأولى، التي تحل في يوليو القادم الذكرى المئوية لبدايتها، وضع القرن الماضي على أعتاب بحور من الدماء غرق فيها العالم، فليس هناك ما يحول دون استبعاد تكرار ذلك في القرن الجاري بخلاف ما كان متوقعاً في مطلعه. وهذه هي الدلالة الأكثر إثارة للرعب في المأساة الإنسانية السورية الكبرى.